منبر الحـــــوار

اد. جلال الدين محمد صالح

03/11/ 2020

 

29/10/2008م
ارشيف عونا
 

 
 


الانحياز الثقافي ليس وليد الساعة وإنما نشأ مع بدء التحرير الاريتري
 


اانسجاما مع هذه الثقافة اتجه باريتريا عقب تحريرها واستقلالها نحو الامبريالية والصهيونية مقتفيا في ذلك أثر من سبقه من حكام الثقافة الحبشية في المنطقة، غير شاذ عنهم في هذا الخيار الحضاري، ولم يتضايق علي الغالب من تصرفه هذا الا حملة الثقافة الاسلامية الذين رأوا فيه تهديدا مباشرا لثقافتهم وازدراء بها، اما الجانب الآخر فتعامل معه بترحيب، او اللامبالاة الا ما ندر. وهذا أحد أصدقاء الثورة الاريترية من الاوروبيين يدعي (جويدو بيمبي) قدم ورقة بعنوان (نضال التحرر الوطني وجبهات التحرير) في محكمة الشعوب الدائمة دورة اريتريا التي انعقدت في ميلانو بايطاليا قال فيها: ولهذا كانت جبهة التحرير الاريترية في البداية يسيطر عليها ويقودها الزعماء القبليون الموالون للعرب حتي إلي حد اعتبار اريتريا بلدا عربيا اسلاميا رغم واقع أن نصف سكانها مسيحيون، وقد تغير هذا الوضع تدريجيا مع تنامي قوة الجبهة... . وسواء كان مصدر هذه المعلومات التي حصل عليه هذا الاوروبي وعبر عنها بهذه اللغة العدائية جهة اريترية، أم كانت من محض وخالص ملاحظاته ومراقباته الخاصة، لا تدل في النهاية الا عن الرضي بخط الانحراف عن الزاوية العربية، وإني لأجد فيها وفي ما سواها من المقابلات الصحفية، والتصريحات المماثلة التي يدلي بها مسؤولو الجبهة الشعبية تأكيدا لما ذكرته من وجود ثقافتين مختلفتين تتنازعان قيادة هذا البلد، ولكل منهما حضوره وتأثيره في تصور الكيان الاريتري، وامتداداته الثقافية ومن ثم تتجدد الصراعات بشكل وآخر، وبين فترة وأخري حول السلطة. ولكن هل يعني هذا استحالة التعايش بينهما؟

إن التمايز لا يعني بأي حال من الاحوال التعادي والتنافر، ومن هنا ليس هذا التباين الحضاري في حد ذاته خطرا مدمرا اذا ما تعايش بعقد اجتماعي يحمل خصائص الثقافتين، فليس في العالم اليوم دولة متجانسة تماما من الناحية اللغوية، او الدينية، او القومية إلا ما ندر كالكوريتين اللتين تتمتعان بتجانس اثني كامل، واذا كان هنالك احتكاك وتصادم فلا بد ان يكون بفعل واحدة او اكثر من العوامل التالية:

أولا: عجز النظام السياسي عن استيعاب خصائص المكونات الثقافية للمجتمع وضمان حقوقه كافة.

ثانيا: تسلل الروح الشوفينية إلي جماعة من الجماعات، تحملها علي اعتماد سياسات النفي او الفني انطلاقا من الاعجاب بالذات، والنظر اليها باعتبارها خيار العناية الربانية، لا أحد اقدر وأكفأ منها في حكم البلد.

ثالثا: التدخل الخارجي من قوي اقليمية او دولية، والتجاوب معه لسبب وآخر.

تصادم الثقافات

واذا ما نظرنا الي حالات التصادم بين الثقافتين في اريتريا خلال العقود الاستعمارية المنصرمة والفترة الحالية نجد ان هذه العوامل كانت وما زالت وراء كل ما شهدناه ونشهده من نفور وشكوك متبادل بين الثقافتين، فالتدخل الخارجي ممثلا في اثيوبيا المتحالفة مع الغرب والصهيونية أوجد فجوة كبيرة وهوة واسعة في العلاقة بين التجرنية من حملة الثقافة المسيحية الذين تجاوبوا في معظمهم مع هذا التدخل، وبين غيرهم من حملة الثقافة الاسلامية الذين قاوموه في غالبهم.

وفي هذا يقول ولد آب ولد ماريام: لو لم تتدخل اثيوبيا في اجتماع بيت جرجيس لضمنا وحدة الشعب الاريتري واستقلاله، وعلاقة حسن الجوار مع اثيوبيا، ولما حدثت الحروب الطاحنة التي دامت اكثر من ثلاثين عاما بين الشعبين . نعم هذا صحيح، ولكن لا بد من العلم ان تأثير مفعول العامل الخارجي متوقف علي قابلية العامل الذاتي، بمعني لو لم يكن المجتمع الاريتري مهيأً ذاتيا وقابلا للتدخل الاثيوبي لما كان لهذا التدخل اثر يذكر، مما يجعل السؤال واردا عن أسباب هذه القابلية.

تسلل الشوفينية

أما تسلل الشوفينية واعتماد سياسات النفي او الفني فيكفي ان نقف عليها من خلال مناقشات (حديش يوهانس) الذي كتب في News. Asmarino. Com بتاريخ 2000/11/3 مقالا مطولا قال فيه وهو يعالج علاقة الدين بالسياسة: لهذا لا مجال لان يكون القداس المسيحي مزعجا للسلام، ولا الشريعة ايضا، ان المجاهدين الذين أصبحوا أداة لقوي خارجية إذا أرادوا الشريعة الاسلامية فليذهبوا الي السودان، او السعودية، قد تقول ل: إن الاسلام طريق حياة، ولكن أقول لك: حتي الوثنية طريق حياة فضلا عن المسيحية.

ومن غير خوض في مناقشة علاقة كل من الاسلام والمسيحية بشؤون الحياة فمن حق المسلمين ان يتساءلوا لماذا ينفون إلي السعودية او السودان إذا ما أرادوا الاسلام قانونا لهم كما نفت الستالينية الشيشانيين إلي مجاهيل سيبيريا؟!! ولاحظوا ان حديش لم يحدد للطرف المقابل أرضا ينفيه اليها حيث لم يقل مثلا: واذا كانت الكنيسة تريد ان تعكر صفو السلام فلتذهب الي روما أو أكسوم، ولعل هذا نابع من قناعته بأن النفي من حظ الدخيل لا الاصيل وإلا لماذا اختار للمنفيين السعودية والسودان متهما الاتجاه الاسلامي بالعمالة لأيد خارجية!! ومتجاهلا في الوقت ذاته بأن هذه العمالة سجلها التاريخ علي من تلبس بها مما كلفنا جميعا تكاليف باهظة، ولكنها دندنة النظام، ومن عجب الدنيا ان يرمي بالعمالة من ثار ضد العمالة، ولكن هذا زمانك يا مهازل فامرحي.

ولا تحسبوا ان هذه الهرطقة السياسية قاصرة فقط في حدود عقلية يوهانس لا تتجاوز نطاق تفكيره، ولا تتعداه الي من سواه، كلا، فقد قال الرئيس إسياس أفورقي ما يشابهها ويطابقها تماماً عندما سئل عن اللغة العربية حيث كان رده علي النحو التالي: من لديه أزمة هوية ويقول: ان هذه او تلك اللغة ــ يقصد اللغات المحلية ــ ليست لغتي، وليست لغة شعبي، ولا ارغب الحديث بها، او سماعها وأرغب في استعارة لغة أخري، ويريد ان يكرس ذات المفاهيم التقسيمية التي حاول الانكليز غرسها فعليه ان يدرك أن لا مكان له في هذا الوطن.

التنكر للغة

وبعيدا عن النقاش حول ما اذا كان هنالك أحد من المجتمع الاريتري تنكر للغته الاصلية ورفض الحديث بها، او الاستماع اليها، فاني لا اجد فرقا بين إسياس افورقي بصفته رئيس دولة، وقائد تنظيم، وبين (حديش يوهانس) باعتباره مثقفا وكاتبا علي صفحات الانترنت في التشبع بسياسات النفي او الفني مما يجعلني اتساءل عن سر هذا التطابق، بمعني ايهما تأثر بالآخر؟ ام انه انعكاس لوحدة الاصول الثقافية قبل ان يكون عملية تأثر وتأثير، اذ لا فرق بين عبارة ذاك المثقف يوهانس الذي يكتب من الغرب قائلا: إذا أرادوا الشريعة فليرحلوا إلي السودان، وبين مقولة رئيس الدولة إسياس افورقي الذي يحكم من أسمرا بقوله: فعليه ان يدرك ان لا مكان له في هذا الوطن!! وإذا كان هنالك فرق يذكر فانما هو تحديد (حديش يوهانس) مكان النفي مما يجعل نفيه أرحم من نفي إسياس الذي تركه مفتوحا بقوله:... لا مكان له في هذا الوطن.

حقا إن ثقافة تحشر الآخر في زاوية ضيقة لا خيار له فيها إلا النفي او الفني، وتعجز في ذاتها عن استيعابه بكل خصائصه لهي ثقافة بالية متحجرة، لا تصلح أبدا لتكون ثقافة وطنية تعصم عمود الوطن من التصدعات والانهيارات، وإنها لفي حاجة ماسة إلي التطور حتي تتخلص من هذه النفايات السامة والقاتلة، وحتي تستوعب مسألة التعايش بكل ابعادها وفق عقد اجتماعي لا يملي شروطه طرف علي آخر.

الانحياز الثقافي

وهذا الانحياز الثقافي ليس وليد الساعة، وإنما طفا علي السطح منذ وقت مبكر، وبدت آثاره الاولي في بدايات تطور النضال الاريتري، يؤكد ذلك ظهور وثيقة (نحن وأهدافنا) التي كشفت وبشكل صريح عن ملامحه العامة، ولعبت دورا كبيرا في تعميق المخاوف لدي الناطقين بالتجرنية من كل ما له صلة بالثقافة الاسلامية ولغتها العربية متصيدة اخطاء العمل الثوري لدرجة ان الامين محمد سعيد الامين العام للحزب الحاكم يذكر في كتابه الثورة الاريترية الدفع والتردي: ان تلك الشكوك شكلت عائقا في ازالة حواجز اللقاء بين جانب فصيله، وجانب الفصيل الذي كان ينتمي اليه الناطقون بالتجرنية إبان السعي الي انشاء قوات التحرير الشعبية التي تحولت لاحقا الي الجبهة الشعبية، غير انه يعزو ذلك الي سوء معاملة القيادة العامة ومهما كان الموقف من تفسير الامين هذا، فان التساؤل الذي يمكن ايراده هنا هو: كيف يمكن اختزال تلك المخاوف والشكوك في تلك الاسباب التي اشار اليها الامين مع العلم ان ولد يسوس عمار ذكر في كتابه (اريتريا جذور الحرب والهجرة) ان إسياس افورقي اتهمه في نيسان (ابريل) عام 1966 خلال اجتماع خلية من خلايا جبهة تحرير اريتريا عقد باديس أبابا بأنه يتستر علي ما تقوم به الجبهة من ممارسة الجهاد ورفع شعاره، كما يذكر ايضا انه في عام 1968 وقعت في يد هذه الخلية باديس أبابا رسالة من إسياس أفورقي بعد التحاقه بالثورة موجهة الي زملائه من ابناء كبسا يحرضهم فيها علي ارسال مزيد من المسيحيين للدفاع عن شرف ابناء كبسا، وبعد ان اعلن انفصاله عن جبهة تحرير اريتريا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1971 كان إسياس ومجموعته ــ حسبما يذكر ولد يسوس عمار ــ يسألون قراءهم ما الذي يمكن أن نعمله اذا لوحقنا بسبب ما نحمل من أفكار وطنية؟ وكان جوابهم الجاهز علي سؤالهم هذا هو: اللجوء الي خلق تنظيم جديد ولو كان غالب اعضائه او كلهم من المسيحيين بالميلاد، او الثقافة، او التاريخ مما يدلنا علي ان بوادر تلك الشكوك والتخوف انما بدت منذ وقت مبكر قبل التحاق إسياس بالثورة التي جاءها وهو حذر وحامل لهذه المخاوف والشكوك، مع التفكير في العمل لايجاد البديل الذي يحمل قناعاته الخاصة، والذي أوجده فعلا، الامر الذي يرجح ارتباط هذه المخاوف بالنشأة الثقافية وجذورها أكثر من ارتباطها بمظالم طارئة من غير نفي كامل لوجود هذه المظالم بشكل كلي.


اخفاق الاستيعاب الثقافي

وكأثر من آثار هذه الثقافة نري نظام الجبهة الشعبية الحاكم يخفق في استيعاب ثقافتي الحضارتين معا بزعم ان ذلك تكريس لسياسات الانكليز، ونجد انحيازه المكشوف نحو ثقافة التجرنية اوضح من ان يكون مثار جدل ونقاش مما زاد الطين بلة وجعل حملة الثقافة الاسلامية يصنفونه من دون تردد ضمن توجه الثقافة الحبشية الاكسومية. ومن ثم لا عجب ان تشيع تساؤلات علي نطاق واسع وعريض حول افضل ما يمكن ان تحكم به اريتريا قناعة من انها وطن لثقافتين وليس لواحدة، وخروجا من الواقع القائم، واستياء مما يحمل من توجهات انحيازية خطيرة، هي بلا شك من اخطر الظواهر التي تفتك بالاستقرار الوطني أيا كان سببها. لذا أود ان اشير هنا بناء علي هذه القناعة التي احملها الي ثلاث نقاط هي في حكم الثوابت والمسلمات بالنسبة لي علي الاقل في فهم اشكالية السلطة وعلاقة الانسان بها بشكل عام، وسأنطلق منها في معالجتي لها، وطرح ما أراه مناسبا، وهذه النقاط هي:

أولا: تحديد المشكلة السياسية في كل بلد من شأنه ان يسهم في حلها.

ثانيا: ان علاقة الانسان بالانسان محكومة بتعارض المصالح وتزاحمها، وهذه مشكلة اجتماعية بشكل عام.

ثالثا: ان هذه المشكلة الاجتماعية لا بد ان تنعكس علي مجال الحكم والسلطة، ومن ثم يكون الصراع علي السلطة وشكل السلطة. لان السلطة بطبيعتها مصدر قوة، وهي تتيح لمن تكون بيده فرصا كبيرة للاستقلال والانتفاع، ومن ناحية ثانية إن السلطة سيادة، والانسان بطبعه ميال إلي السيادة .

وعليه عندما نتناول مشكلة السلطة في اريتريا بالبحث والدراسة سعيا وراء افضل الحلول المناسبة يجب ان ننطلق مما يلي:

أولا: حماية الانسان الاريتري من عدوان أخيه المواطن وظلمه، وتوطيد دعائم الاستقرار الوطني.

ثانيا: التعرف علي كامل ابعاد المشكلة وعدم اخفاء معالمها، لان هذا هو الطريق الوحيد في الوصول الي الحل.

ثالثا: اعتماد حلول جذرية وواقعية بعيدة كل البعد عن المثالية، والديماغوجية والاساليب القسرية والاكراهية، نابعة من تحاول الثقافتين، وليست ترقيعية وافدة، ولا خيالية حالمة.


جريدةالزمان