منبر الحـــــوار

 

بقلم / حامد صالح
28/2/2008

ارشيف عونا
 

 

 

 
 
 

 

قِصَّـــةُ شَعَب
 



ظللت متلهفا ومنذ أن علمت بنبأ تدشين البث الإعلامي للمعارضة الارترية عبر التلفزيون الأثيوبي في وقت مقتطع من برامجه بقدر نصف ساعة لمدة أربعة أيام: يومان باللغة العربية ويومان بالتجرنية ، وظللت أسعى للحصول على فرصة المشاهدة لهذا الحدث الجديد ، وتحقيقا لتلك الرغبة صرت أتحين الفرصة المواتية، وقد كنت ذات يوم في زيارة لأحد الأصدقاء الأعزاء فطلبت منه "ملحا" أن يصوب الريموت نحو قناة أثيوبيا الفضائية قبل أن يحين البث بنحو نصف ساعة حرصا في المتابعة واستعداد لتلقي البث " الحدث الإعلامي الكبير " وكنت أتخيل وطيلة الأيام التي سبقت مشاهدتي للبرنامج سيما تلك الدقائق التي سبقت بدايته، كنت أتخيل أن نصف ساعة من الزمن لن تكون كافية أبدا لسرد قصة كبيرة كقصة الشعب الارتري ، تلك القصة المسماة "معاناة الشعب الصابر المناضل" ... قصة استمر المشهد الأخير منها فقط حتى الآن حوالي السبعة عشر عاما،.... قصة طالت كل مكونات الشعب الارتري وفئاته، لكل من تلك الفئات حكايات للقصة تختلف عن الأخرى... ولكن ويالسوء الطالع لم تكن القناة كتلك التي تخيلتها ولا بتلك التي توقعتها ، نصف ساعة من الزمن كانت محصلتها أربع أغنيات وإعلانا عن برنامج القناة كرره المذيع "المتخفي!!" ثلاث مرات ، فهل هذا ما ينتظره شعبنا من إعلام؟ هل هذا ما تنتظره جماهيرنا المعارضة من نضال؟ أليست لنا قصة شعب كامل في انتظار السرد والحكاية دون رتوش أو مونتاج أو إخراج أو مكياج ؟

وإذا لم تقم قناتنا المنتظرة بقراءة قصتنا علينا فإني استسمح قرائي الأعزاء لقراءة قصتنا بدءا بالشيخ الهرم الذي أنقل قصته لكم في المقطع التالي : -

فالشيخ الهرم الذي اقتيد ظلما وعدوانا للسجن يفترش الأرض وهو في سن السبعين وما حولها بتهمة تهريب ابنه أو بنته ، يحكيها منذ أن طرق السجان "المغفل" بابه – آسف منذ أن اقتحم العسكري المدجج بالسلاح باب الشيخ العجوز وكأنه يفتح مدينة أو يقتحم ثكنة للعدو- يحكيها منذ ذلك الحين حتى قام بسداد الخمسين ألفا التي لا يملكها، ليخرج مكسور الخاطر مطأطئ الرأس تغرورق عيناه في هذا السن المتقدم، ويتفطر قلبه لهذا الزمن الرديء الذي أسلمه لهذا المصير المخزي ، وفي ثنايا ذلك ترجع به ذاكرته لتلك الأيام التي كان فيها يافعا جلدا يخدم الثورة بكل ما أوتي من جهد ومال على قلته ، يسافر معها الشهر والشهور ذوات العدد يقود جمله الوحيد الذي يتكسب به معاش أولاده لينقل المؤن الغذائية والعسكرية من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، يكابد هو وجمله وعورة الطريق وسوء الأوضاع الأمنية، يتعرض في رحلته من المخاطر ما لا يتعرض له الجندي المقاتل، حيث الطائرات الحربية تتصيد تحرك جمله حتى ولو كان طليقا يرعى ، فيسري بالليل وربما وقع في كمين غير متوقع أو دخل في معركة طارئة والحال أنه مجرد من السلاح فيكون أول الشهداء في تلك المعارك أو الكمائن ، وهو في رحلته تلك التي تمتد لشهور تقاسي أسرته الجوع والخوف والمرض والحرمان بل وتعاني من المصير المجهول الذي ينتظر والدهم، وهم في انتظاره ربما جاءهم خبر استشهاده ، ولكنه كان يعتبر ذلك واجبا وطنيا تقتضيه مرحلة النضال والتحرر التي ستفضي به وبأسرته تلك بل وبشعبنا كله إلى بر الأمان والسلام والرفاهية والحرية ، فلا خوف بعد الحرية وطرد المستعمر من الاعتقالات ومداهمة البيوت ليلا، ولا حجر على التنقلات هنا وهناك، ولا نقاط للتفتيش في كل عشرة كيلو ، ولا مساءلة للمواطن من أين أتيت وأين تذهب؟ ولا مطاردة للشباب للتجنيد القهري ومعسكرات الذل والأمية .

فمرحلة الحرية غير مرحلة التحرر ففي عهد الحرية –يقول الشيخ الكبير- سنعوض ما فاتنا من تنمية و تطور في كل المجالات في التعليم حيث سينخرط شبابنا في الريف والمدن في سلك التعليم في كل مراحله العليا والدنيا ، وسيكون من بينهم الطبيب الذي يعالج سكان القرية، ويكون منهم المهندس الذي سيسهم في بناء القرية وتطويرها في كل مناحيها في الطرق والكباري والسدود والزراعة والكهرباء، ويكون منهم المعلم الذي يعلم الأجيال ويربي الناشئة، ويكون منهم القاضي الذي يرسي العدل ويفصل في المنازعات، ويكون منهم الإداري الذي يتولى التنسيق بين كل تلك الفئات وينظم شئونها وحركتها ، وبالتالي فإن مهر الحرية غال وثمين ، فلا يهم أن يجوع الأبناء ولا يهم أن يتيتم الأطفال ولا يهم بعد ذلك كله أن نكون أحياء أم شهداء.



وإذا بالشيخ الهرم وهو يتخيل تلك الفترة الزاهية التي استعادتها ذاكرته بعد أن رأي أن أولئك الجند الذين كان يقوم بخدمتهم ويسير معهم الشهور ، يداوي جريحهم ويطبب مريضهم ويحمل عنهم أسلحتهم ويحمل إليهم الغذاء والماء ويتحمل في كل ذلك ملاحقات العدو الأثيوبي بالسجن تارة وبالضرب تارة أخرى وبمصادرة البهائم والأموال تارات أخر ، رأى أن أولئك الجند هم ذاتهم اليوم كافأوه بكل ذلك سجنا وضربا وشتما وسلبا وإهانة ، إذا به وهو يقاسي مرارة المقارنة، إذا به أمام داره وبين يدي زوجه العجوز التي هي الأخرى قاست الحرمان بعد أن سجن الزوج واستشهد الابن الأكبر وهرب الثاني نحو المجهول فلا تعرف أحي هو أم ميت؟ ، إذا بالشيخ الكبير أمام بيته الذي تصدعت أركانه وتشققت جوانبه، إذا به أمام مزرعته التي توزعها الغرباء واستوطن فيها الطامعون بفعل الطاغية "أفورقي" إذا بالشيخ الهرم أمام الجزء اليسير الذي بقي من مزرعته في ملكه وقد استولت عليه الأشجار والحشائش وصارت إلى الغابة منها اقرب إلى المزرعة ، حيث مرت سنوات دون أن يتمكن من زراعتها فلا السن تساعده، ولا الإمكانيات تعينه ولا الولد بجانبه ولا الأقارب والجيران ينفرون معه فيما كانوا يسمونه "كيوا" أي النفير الجماعي، فلكل منهم قصته يرويها هو الآخر ، تتشابه فصولها وتتماثل مشاهدها ، ولكنه في كل ذلك يطرد الندم على ما قدم للجبهة من دعم أو مساندة وضحى في سبيل تمكينها بكل غال ورخيص ، علما منه بأنه أدى واجبا وطنيا شريفا وإن استغله المتسلطون لخدمة أغراضهم التدميرية وأهدافهم الخبيثة .

ونواصل في الحلقة القادمة قصة المرأة العجوز مع النظام العجوز