منبر الحـــــوار
 

بقلم : إسماعيل إبراهيم المختار

2019/06/15

 

 
 
 

 


رسالة من شهيد!

 

 

أنا "أسمراوي" ، ولدت ونشأت في مدينة أسمرة. كان والدي موظفا حكوميا كبيرا. نشأت في حي الأغنياء ، حي "ترافولوا" ، وإلتحقت بمدرسة إيطالية خاصة ، مدرسة "بوتيجوا". والدي كان يطمح مني أن أكون مهندسا ، وكان يعدني بأنني بمجرد إنتهائي من دراستي الثانوية ، فسوف يرسلني إلى إيطاليا لإكمال دراستي الجامعية. معظم زملائي في المدرسة كانوا إيطاليين ، وكنت أتحدث اللغة الإيطالية بطلاقة ، وكنت مستوعبا للثقافة الإيطالية إستيعابا كاملا. كانت حياتي سعيدة ، وكل شيء حولي على أتم ما يكون. كنت أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي أرحل فيه إلى إيطاليا لأتمام دراستي ؛ لم يكن يساورني أدنى شك في حدوث ذلك ، لأن والدي كانت لديه الإمكانيات والعلاقات التي تجعل تحقيق هذا الأمر مؤكدا.

 

من حي "ترافولوا" إلى حي "عداقا حموس"

في أيام العطلة الأسبوعية (الأحد) ، إعتاد أبي الذهاب إلى "بار داناداي" الإيطالي ، الكائن في شارع ليوناردو دا فينشي ، للعب "البولينج" ، واحتساء قهوة "الكابتشينوا" الإيطالية المفضلة عنده. في يوم من أيام الأحد ، غادر والدي المنزل للذهاب إلى "بار داناداي" ، ولكنه لم يعد إلى المنزل. بحثنا عنه بحثا حثيثا في كل مكان ، حتى وجدناه سجينا يقبع في سجن "كارشيلي" في أسمرة. بعد سنة كاملة من السجن ، تم إطلاق سراحه مع غيره من السجناء في مناسبة عيد ميلاد الملك هيلا سيلاسي. عاد أبي إلى المنزل ، لكنه لم يكن ذلك الشخص الذي عرفناه. كان قويا في معنوياته ، لكنه كان قد ضعف ضعفا شديدا في جسده. كان يعاني من آلام في الظهر ، ويعرج في مشيته ، وعلى جسده تبدوا أثار التعذيب في السجن ، وكانت تهمته أنه كان يحمل آراءا معادية للحكومة. حاول والدي العودة إلى عمله السابق ، ولكنه وجد منصبه قد شغل بمسؤول أمهراوي قدم من أديس أبابا.

أصبح العيش في حي "ترافولوا" ، والذهاب إلى المدرسة الإيطالية الخاصة ، فوق إمكانياتنا المادية ، فقررنا الإنتقال إلى حي "عداقا حموس" ، وهناك التحقت بأقرب مدرسة عامة ، "مدرسة بنوفلنت" ، والمعروفة ب "إسلاميا". كان الانتقال إلى حي جديد ، ومدرسة جديدة ، وتغيير نمط حياتنا أمرا مؤلمًا ؛ ولكن مع مرور الوقت ، تأقلمت مع حياتنا الأكثر فقراً ، بل وأصبحت أفضلها على حياتي في "ترافولوا". حي "عداقا حموس" فتح عيني على حقائق واقعية كانت محجوبة عني. في هذا الحي بدأت أحس بآلام شعبي ، وأشاهد عيانا الوجه القبيح للاحتلال. في "عداقا حموس" ، رأيت في سوق الماشية ، أعواد المشانق وعليها جثث العشرات من الشباب الإريتريين الأبرياء. في المدرسة والحي ، كانت قصص السجن ، والتعذيب ، والاختفاء من الأشياء التي أسمعها دائما وبشكل متكرر. ولقد شاهدت بنفسي الاختفاء المفاجئ لبعض أساتذتي ، ورأيت كذلك المئات من المتسولين النازحين ، الذين هاجروا إلى أسمرة ، بعد أن دمرت قراهم ، وأحرقت مزارعهم على يد ال "كوماندوز" و "طور سراويت".

 

من "مهندس" إلى "مناضل"

مع تنامي الوعي السياسي عندي ، وزيادة إحساسي بمعاناة شعبي ، كان شعوري بالواجب والمسؤولية تجاه شعبي يثقل ضميري. في أزقة "عداقا حموس" ، وفي الفناء الخلفي للمدرسة ، كان الحديث بيني وبين أصدقائي يدور حول فظائع الاحتلال وجرائمه ، وما يجب علينا فعله. تحدثنا عن "الجبهة" ، واقترح بعض أصدقائي الإلتحاق بالجبهة وحمل السلاح. كنت في حالة من الحيرة والإظطراب ، ضميري يؤنبني ، ويدعوني لنجدة شعبي وإنهاء معاناته. في عطلة المدرسة الصيفية ، حزمت أمري ، وقرّرت مع مجموعة من أصدقائي إن نلتحق بالجبهة. تسللنا من أسمرة خلسة ، ولحقنا بالركب ، وبذلك أصبحت "مناضلا"!

كانت حياة النضال صعبة وخطيرة. كنا ننام في العراء ، ونقطع الفيافي البعيدة ليلا سيرا على الأقدام ، تعترضنا الحيوانات الجارحة والقاتلة ، مع شح شديد في الطعام والشراب. ولكن رغم كل هذه المصاعب ، كان الشعور بالدفء الأخوي بيننا كمناضلين ، والهدف المشترك الذي خرجنا من أجله مما يخفف عنا وطأة مشقة النضال. كنا في الغالب شبابا ، وكل منا يحرص على إخوانه ، ويتصف بنكران الذات ، والإستعداد للتضحية دون تردد من أجل شعبنا ؛ هدفنا الوحيد كان تحرير شعبنا ورفع الظلم عنه. كانت أحب الأغاني الينا ، أغنية "ود جبروا" بالتيجرينية ، والتي يقول فيها:

دع عيني تسيل ،

دع فكي يتهشم ،

لابد أن أموت من أجل بلدي

البلد ليس بالأمر الهين!

وبالتأكيد ، لم يكن كل شيء في جبهة النضال خاليا من العيب. أنا شخصياً كنت ضد التوجه الإيديولوجي الماركسي اللينيني الذي كان يروج لنا. كنت أرى أن نضالنا لم يكن نضالا أيديولوجيًا ، ولا صراعا طبقيًا ، وإنما كان نضالا من أجل الحرية والعدالة ، وإدخال العنصر ألأيديولوجي في نضالنا إنما يؤدي إلى مزيد من التوتر الاجتماعي والفئوي. وكان يسوؤني أيضا الشحن الحزبي الموجه ضد المجموعات الأرترية الأخرى. وكنت أرى من غير اللائق وصف المناضليين في المجموعات الأخرى ب"الرجعيين" ؛ فهم شركائنا في النضال ، وإن إختلف إنتماؤهم ، ولا يصح النظر إليهم كأعداء يجب القضاء عليهم. ورغم وجود هذه السلبيات ، فإني كنت أراها سلبيات مرحلية سرعان ما تزول ، ولا ينبغي أن تصرف أنظارنا عن الأهداف النبيلة الكبرى لنضالنا المجيد.

كفاحنا كان في تقدم دائم ، وكان يكتسب كل يوم زخماً جديدا ؛ وعدونا كان في حالة تراجع مستمر، ونصرنا وشيك الحدوث.

كان لدينا المئات من الأسرى من جنود العدو. في المرة الأولى التي رأيت فيها هؤلاء الأسرى ، أحسست بحالة من الغضب ، وبرغبة في الانتقام ، لكنني بعد أن رأيت وجوههم المرعوبة ، ولاحظت صغر سنهم ، واستمعت إلى قصصهم ، تحول غضبي ورغبتي في الانتقام منهم ، إلى العطف والشفقة عليهم. لقد تم إجبار العديد من هؤلاء الشباب على الإنضمام إلى الجيش ، والكثير منهم لم يكونوا يعرفون لماذا ومن يقاتلون. لقد قيل لهم إنهم يقاتلون شرذمة من "قطاع الطرق" الذين يريدون إفساد البلاد. لقد أدركت أن هؤلاء الجنود ، هم مثلنا ، ضحايا ؛ لم يكونوا هم العدو ، وإنما العدو الحقيقي هي تلك النخبة الثرية ، المتسلطة التي تحتل بلادنا ، وتدفع بهؤلاء الجنود الشباب إلى أتون الحرب والهلاك.

 

من "مناضل" إلى "شهيد"

بدأ العدو يتخذ الخطوات لوقف زحفنا ، ويحشد كل قواه لهجوم كبير ينهي وجودنا. أمضينا أسابيع في التخطيط والإعداد لهذه المعركة الفاصلة ، وتم تكليفي بمهمة كبيرة. بدأ العدو هجومه بقصف جويً وبري زلزل الأرض من تحتنا ، وحولها إلى بركان حارق. صمدنا في مواقعنا ، وتحملنا ضرباته ، وأحبطنا كل محاولاته للتقدم ، حتى تمكنا في نهاية المطاف من اختراق صفوفه ، ومطاردة فلوله. أثناء تقدمنا السريع نحو جبهة العدو، إنفجرت أمامي قنبلة ، وأصبت بجروح قاتلة ، وسقطت على الأرض مشلول الحركة. تم وضعي تحت ظل شجرة ، ورفاقي يحاولون التخفيف عني ، ولكن جرحي كان خطيرا ، ونهايتي وشيكة.

 

أحلام ومخاوف الشهيد

بينما كنت ملقى على ظهري ، والآلام تفتك بجسدي ، كان ذهني يجول في بحر من الأفكار والتخيلات. ساورني شعور بالحزن لأنني لن أشهد يوم إستقلال وطني ، ولأنني لن أعيش لأحقق حلم والدي في أن أكون "مهندسا " ، لكنني في نفس الوقت كنت أحس براحة نفسية ، وشعورا بالإنجاز ، حيث قدمت لوطني ولشعبي أغلى وأعز ما أملك.

بدأت أتخيل الحياة بعدي في أرتريا المستقلة ، فتخيلتها أرضا إغلقت فيها وللأبد سجون "كرشيلي" و "سيمبل" وغيرها من السجون ؛ تخيلتها بلدا لم يعد فيه التعبير عن الرأي السياسي المخالف جرما يعاقب عليه الإنسان ؛ تخيلتها بلدا لا تجد فيه أما تقضي ليلها باكية على أبنها المغيب عنها ؛ تخيلتها أرضا يسود فيه القانون والعدل الإجراءي ، وتتكافؤ فيه الفرص ، ويسود فيه التسامح والتحاور. وبينما كنت مسترسلا في تخيلاتي ، ثارت في ذهني مجموعة من الأسئلة المخيفة:

هل من الممكن أن لا تتحقق أحلامي وتخيلاتي في أرض الواقعً؟

هل من الممكن سرقة ثمار كفاحنا وحرمان شعبنا منها؟

هل من الممكن أن يتحول "المحررون" إلى "جلادين" جدد؟

هل من الممكن أن يتغير السجانون وتبقى السجون كما هي؟

هل من الممكن أن تتحول إريتريا إلى "زيمبابوي" أو "موزامبيق" أخرى ؛ دولة الرجل الواحد والفصيل الواحد؟

 

أزعجتني هذه الأسئلة كثيرا ، ولكنني استبعدتها سريعا ، وقلت في نفسي: لقد ضحى شعبي كثيرًا ، وبذل الغالي والرخيص من أجل حريته وكرامته ، ولن يفرط في مكتسباته ، ويسمح لأحد بسرقة ثمرة كفاحه.

شعرت بوطأة الجروح على جسدي ، ورأيت الدموع في عيون رفاقي الذين رأوا ، كما رأيت ، الموت يزحف ببطء نحوي. في هذه اللحظات الأخيرة ، كنت أتسائل عن ما يحدث بعدنا. هل سنكون في زوايا النسيان ، أم ستذكرنا الأجيال وتقدر تضحياتنا؟ كنت على يقين بأنه سيتم تخصيص "يوم لذكرى الشهداء" في أرتريا المستقلة ، وستقام الاحتفالات كل عام بهذه المناسبة ، وسيتم إلقاء الخطب لتمجيد تضحياتنا البطولية ، وستوضع الزهور على نصب الشهيد. لكن هذه المظاهر الإحتفالية ، في نظري ، أصبحت طقوسا هلامية تقيمها كل الدول ، ولا أراها تعبيرا حقيقا عن تكريم الشهداء وتقديرا لتضحياتهم. إن أفضل طريقة لتكريمنا ، وتقدير تضحياتنا هو تحويل إريتريا إلى منارة للحرية ، والعدالة ، وحقوق الإنسان ، والسلم الإجتماعي ؛ وأي شئ دون هذا فهو خيانة لتضحياتنا ، وسخرية من كفاحنا.

وداعا

أيها الإريتريون ، لقد تخليت عن حلمي بأن أكون مهندسا ، وتحملت الكثير من الآلام ، وضحيت بحياتي حتى لا تعيشوا حياة الذل التي عاشها جيلي تحت الاحتلال. لقد ضحيت أنا ورفاقي أغلى ما نملك ، حتى تعيشوا في أرضكم حياة حرة كريمة ، دون خوف ولا وجل. لقد قمنا بدورنا في إنهاء الاحتلال ، والآن جاء دوركم لجني الثمار ، وقطفها بأيديكم ، وحمايتها من العابثين بها.

فلتكن إريتريا دولة نموذجية يتطلع إليها الجميع ، ولتبقى فخرًا لكل الأجيال القادمة!